عن النفس: ترتليانوس الإفريقي
تُعد مقالة ترتليانوس ”عن النفس“ العمل الأول في سلسلة طويلة من الإسهامات المسيحية في مجال علم النفس. في اقتحامه هذا المجال، لم يخلع ترتليانوس عنه وظيفته المزدوجة كمدافع عن المسيحية أمام الوثنيين، وكمدافع شرس عن الإيمان الرسولي أمام مكائد الهراطقة.
كان ترتليانوس قد كتب مؤلفًا بعنوان ”عن أصل النفس“ (لكنه فُقد)، ردًا على هرموجنيس المناصر للمذهب المادي، ولكنه في هذه المقالة ”عن النفس“ يعود لتقديم معالجة كاملة لموضوعات أخرى أُقحمت فيها التخمينات الفلسفية عن النفس على تعاليم الوحي الإلهي. وكان مبرر ترتليانوس للشروع في هذه المهمة إنّ الدفاع عن التعليم المسيحي ضد الهراطقة يتعزز أكثر بمهاجمة أساس الهرطقة؛ أي أخطاء الفلسفة.
بعد مقدمة يصف فيها المنهجيات المعيبة للفلاسفة ويحذرنا من أخطار تعاليمهم، يحلل ترتليانوس الأسئلة التي تظهر بشأن سمات النفس. ويعلن ترتليانوس أن للنفس بداية في الزمن، ومصدرها ومنشأها هو في نفخة الله، وهذا على عكس ما جاء به أفلاطون الذي اعتنق أزلية النفس، والتي تُدفع من زمان لآخر في تجسدات مختلفة. ثم ينضم ترتليانوس للرواقيين في التأكيد على حقيقة أن النفس جسمية، بخلاف أفلاطون الذي اعتنق أنها غير جسمية. لذلك فهو يصر مؤكدًا على أن النفس جسمٌ، لكنها جسم من نوع متميز، وجسم بحكم طبيعته ليس لديه سمات كثيرة من سمات الجسم المادي. وهكذا على رغم أن النفس غير مرئية، إلا أنها لاتزال جسمية.
يصاحب موضوع وحدة النفس عددٌ من النقاط المتعلقة بنشاطها. وهكذا فالنفس لديها المَلكة التوجيهية الأولى ومكانها في القلب. والجزء اللاعقلاني الذي تحدث عنه أفلاطون ليس جزءًا من النفس، لكنه نشأ نتيجة الخطية جراء إغواء إبليس والآثار المترتبة على الخطية الأصلية. يؤكد ترتليانوس على معصومية الإدراك الحسي، إلا إذا تدخلت عوامل أخرى وعطلت الحواس عن أداء وظيفتها الطبيعية. هذه الحواس بصحبة العقل تمثل مصادر المعرفة للنفس. حياة النفس ونضوجه يبدآن من لحظة الحمل، وعلى رغم أن الطبيعة الأساسية للنفس تتطابق مع نفس آدم، فإن كل التغيرات ترجع إلى الظروف الخارجية. الجزء الثاني من عمل ترتليانوس يتعرض لأصل النفس، بدءًا بتفنيد تعليم أفلاطون عن نظرية ”الاستذكار“، والتأكيد على أن الجنين هو كائن حي، وأن النفس والجسد يتشكلان في نفس اللحظة. ثم يأتي بعد ذلك استطراد تظهر فيه كل إمكانيات السخرية في أسلوب ترتليانوس، مهاجمًا النظرية الفيثاغورسية والأفلاطونية عن هجرة النفوس. ثم يختتم هذا الجزء بالكلام عن جنس النفس ونضوجها حتى لحظة الولادة.
الجزء الختامي من هذا العمل يتعرض لموضوعات احتلت أهمية كبيرة للهدف الرئيس لدى ترتليانوس؛ أينمو النفس بمصاحبة الجسد، وفكرته الغريبة عن عمر البلوغ بالنسبة للنفس، وكذلك بالنسبة للجسد، وكذلك تأثير الخطية على النفس. فإن هجمات إبليس على النفس تبدأ عند الولادة وتستمر مدى الحياة، والخطية الأصلية تُنتزع بالمعمودية. أمَّا مسالة النوم والأحلام فكانت تهم ترتليانوس كثيرًا، الذي يكتب بعد انتقاله إلى شيعة المونتانيين، لذلك نظر إلى تأثير ”الدهش“ أو ”الغيبة“ ecstasy كوسيلة للتواصل الإلهي مع النفس.
ثم يستعرض ترتليانوس الآراء الفلسفية والهرطوقية عن الموت. ويؤكد أن الموت هو الانفصال الدائم للنفس عن الجسد. الموضوع الأخير، وهو مصير النفس بعد الموت، يعكس بقوة اعتقاد ترتليانوس بالحكم الألفي الحرفي عندما يصرح بأن نفوس الشهداء فقط ستذهب على الفور إلى السماء، وكل الباقين سيحبسون في الجحيم حتى القيامة انتظارًا للمكافأة أو العقاب بحسب أفعالهم. وبدون أن يستخدم مصطلح ”مطهر“ فإنه يقدم وصفًا لهذه الحالة. العقوبة أو المكافأة النهائية للنفس لابد أن تنتظر قيامة الجسد، رفيقا لنفس في الخطية أو في الفضيلة
على طول الطريق كان ترتليانوس يذكر ويحلل آراء الفلاسفة والوثنيين، ويُعد عمله هذا بمثابة ترسانة من الحجج الدفاعية لفائدة مَن جاءوا بعده من الكتّاب المسيحيين.